الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتخاطب السورة الكريمة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- مواسية إياه: بأن تكذيب الكافرين لنبوته ولرسالته ليس أمرا جديدا في طبائع البشر، فقد كذبت الأمم الكافرة من قبل كل أنبياء الله ورسله: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وقوم موسي وغيرهم، وكان عقاب المكذبين الدمار الذي تشهد به آثارهم من القصور المهجورة والآبار المعطلة، وتتساءل السورة الكريمة: أفلم يتحرك الناس في الأرض فيدركوا هذه الحقائق حتى تكون عبرة لهم؟ وتؤكد أنها لا تعمي الأبصار ولَكِن تعمي القلوب التي في الصدور...!!ويتعجب سياق السورة الكريمة من استعجال الكافرين لعذاب الله، وتؤكد أن الله-تعالى- لن يخلف وعده، وإن استبعد الكافرون ذلك لطول آماد الله فاليوم عنده سبحانه بألف سنة ممايعد أهل الأرض. وتأمر السورة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- أن يبلغ الناس كافة بأنه نذير من الله مبين..وتختتم سورة الحج بتقرير أن الله-تعالى- يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، وتأمر بعبادة الله-تعالى- ركوعا وسجودا وذكرا بما أمر، كما تأمر بفعل الخيرات، وبالجهاد في سبيل الله حق الجهاد، حتى يفلح العباد. وتؤكد أنه مافي دين الإسلام من حرج، وأنه رسالة السماء إلى الأرض على فترة من الرسل.. ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس... ولكي نكون جديرين بهذه الشهادة على الناس تختتم السورة الكريمة بأمرنا بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وبالاعتصام بالله-تعالى- هو مولانا ومولي كل موجود، وهو سبحانه نعم المولي ونعم النصير.ومن الأدلة الكونية التي ساقتها سورة الحج تصديقا لما جاء بها من أمور الغيب وأوامر الله مايلي:(1) خلق الإنسان من تراب، ودقة مراحل الجنين المتتالية التي يمر بها حتى يخرج للحياة طفلا، يحيا ماشاء له الله-تعالى- أن يحيا ثم يتوفاه الله عند نهاية أجله المحدد.(2) اهتزاز الأرض، وارتفاعها، واخضرارها، وإنباتها من كل زوج بهيج بمجرد إنزال الماء عليها، وشبه ذلك مع خلق الإنسان من تراب.(3) التأكيد على سجود كل من في السماوات ومن في الأرض لله-تعالى- طوعا أو كرها.(4) قوله-تعالى-: {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج:47).(5) التعبير عن دوران الأرض حول محورها بإيلاج كل من الليل والنهار في الآخر.(6) تسخير كل مافي الأرض، وجري الفلك في البحر بأمر الله.(7) إمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن الله.(8) إحياء الإنسان أي خلقه من العدم، ثم إماتته، ثم إحياؤه مرة أخري أي بعثه.(9) عجز المخلوقين عن الخلق، وعن استنقاذ مايسلبهم الذباب.وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى معالجة مستقلة، ولذا فسوف أقتصر هنا على النقطة الثانية فقط ألا وهي التي يصفها الحق-تبارك وتعالى- بقوله-عز من قائل-: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } [الحج:5].وقبل ذلك لابد من استعراض لدلالات الألفاظ الغريبة في الآية الكريمة ولأقوال المفسرين فيها الدلالة اللغوية من الألفاظ الغريبة في هذا النص القرآني الكريم مايلي:(1) هامدة: يقال في اللغة همدت النار أي خمدت وطفئت جذوتها وذهبت البتة ; ومنه أرض هامدة أي لا نبات فيها، ونبات هامد أي يابس، والاهماد هو الإقامة بالمكان كأنه صار ذا همد، وقيل الإهماد السرعة وهي عكس الخمود والخمول، وإن كان ذلك صحيحا فتصبح الكلمة من الأضداد كالإشكاء في كونه تارة لإزالة الشكوي، وتارة لإثباتها، ومعني قوله-تعالى-: وترى الأرض هامدة أي جافة، قاحلة لا نبات فيها، يقال همدت الأرض تهمد همودا أي يبست ودرست، وهمد الثوب أي بلي.وقد وردت الصفة هامدة مرة واحدة في القرآن الكريم، وجاءت بنفس المعني بالتعبير خاشعة في قول الحق-تبارك وتعالى-: {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتي إنه على كل شيء قدير} (فصلت:39).(2) اهتزت: هذا الفعل بهذه الصياغة وفي نفس المعني جاء في كتاب الله مرتين (فصلت:39، والحج:5)، كما جاء بصيغة الأمر هزي مرة واحدة (مريم:25)، وفي صيغة المضارع تهتز مرتين (النمل:10، القصص:31).ومعني اهتزت هنا: انتفضت وتحركت في رأي العين، يقال: هز الشيء فاهتز أي حركه فتحرك بشدة، لأن الهز هو التحريك الشديد، والهزة الأرضية هي الزلزلة، وهي أيضا النشاط والارتياح.(3) وربت: أي زاد حجمها فانتفخت وعلت، يقال في اللغة: ربا الشيء يربو ربوا أي زاد ونما، والربوة والرابية ما ارتفع من الأرض، وكذلك الرباوة، والربا الزيادة في كل من المال والسلع بغير مقابل، يقال: أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت، ويقال: أربي عليه بمعني ارتفع عنه فأشرف عليه، والربو هو مرض النفس العالي، ويقال: ربا إذا أخذه مرض الربو، ويقال رباه تربية وترباه أي تعهده بالرعاية والعناية حتى نما وهذا لكل ما ينمي كالولد، والزرع، ونحوه.أقوال المفسرين في تفسير قوله-تعالى-: { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج}.ذكر ابن كثير يرحمه الله ما نصه: {وترى الأرض هامدة} هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتي، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء وقال قتادة: غبراء متهشمة، وقال السدي: ميتة، {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج}: أي فإذا أنزل الله عليها المطر اهتزت أي تحركت بالنبات وحييت بعد موتها، وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثري، ثم أنبتت مافيها من ثمار وزروع، وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها ومنافعها، ولهذا قال تعالى: {وأنبتت من كل زوج بهيج} أي حسن المنظر طيب الريح...وجاء في تفسير الجلالين ما نصه: {وترى الأرض هامدة} أي يابسة {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت} تحركت {وربت} ارتفعت وزادت {وانبتت}، {من} زائدة {كل زوج} صنف {بهيج} حسن. وذكر صاحب الظلال رحمه الله رحمة واسعة ما نصه: والهمود درجة بين الحياة والموت. وهكذا تكون الأرض قبل الماء، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء. فإذا نزل عليها الماء {اهتزت وربت} وهي حركة عجيبة سجلها القران قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات من كل زوج بهيج وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون، وتنتفض بعد الهمود، وهكذا يتحدث القران عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا، فيسلكهم في آية واحدة من آياته. وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة، وعلي وحدة الأرادة الدافعة لها هنا وهناك، في الأرض والنبات والحيوان والإنسان.وجاء في صفوة البيان لمعاني القران علي كاتبه من الله الرضوان ما نصه: {وترى الأرض هامدة} يابسة لا نبات فيها، يقال: همدت الأرض تهمد همودا، يبست ودرست، وهمد الثوب بلي. {اهتزت} تحركت في رأي العين بسبب حركة النبات، يقال: هز الشيء- من باب رد- فاهتز، حركه فتحرك. {وربت} زادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات. يقال: ربا الشيء يربو ربوا، زاد ونما، ومنه الربا والربوة.{بهيج} نضر حسن المنظر، من بهج- كظرف- بهاجة وبهجة أي حسن.وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم جزاهم الله خيرا ما نصه... وأمر آخر يدلك على قدرة الله على البعث أنك ترى الأرض قاحلة يابسة، فإذا أنزلنا عليها الماء دبت فيها الحياة وتحركت وزادت، وارتفع سطحها بما تخلله من الماء والهواء، وأظهرت من أصناف النباتات مايروق منظره، ويبهر حسنه، وتبتهج لمرآه.وجاء في صفوة التفاسير جزي الله كاتبه خير الجزاء ما نصه: {وترى الأرض هامدة} هذه هي الحجة الثانيةعلي إمكان البعث، أي وترى أيها المخاطب أو أيها المجادل الأرض يابسة ميتة لانبات فيها {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} أي فإذا أنزلنا عليها المطر تحركت بالنبات وانتفخت وزادت وحييت بعد موتها {وأنبتت من كل زوج بهيج} أي وأخرجت من كل صنف عجيب ماسر الناظر ببهائه ورونقه...الدلالة العلمية لقول الحق-تبارك وتعالى-: { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} [الحج:5]ترد لفظة الأرض في القرآن الكريم بثلاثة معان محددة تفهم من سياق الآية القرأنية وهي إما الكوكب ككل، أو الغلاف الصخري المكون لكتل القارات التي نحيا عليها، أو قطاع التربة الذي يغطي صخور ذلك الغلاف الصخري للأرض.وواضح الأمر هنا أن المقصود بالأرض في النص القرآني الذي نتعامل معه هو قطاع التربة الذي يحمل الكساء الخضري للأرض والذي يهتز ويربو بسقوط الماء عليه.قطاع التربة الأرضية:تتكون تربة الأرض بواسطة التحلل الكيميائي والحيوي لصخورها، كما تتكون نتيجة تفكك تلك الصخور بواسطة عوامل التعرية المختلفة التي تؤدي في النهاية إلى تكون غطاء رقيق لصخور الغلاف الصخري للأرض من فتات وبسيس الصخور على هيئة حطام مفروط يعرف باسم عادم الصخور.وعلي ذلك فإن تربة الأرض تمثل الطبقة الرقيقة من عادم الصخور الناتج عن تحلل أجزاء من الغلاف الصخري للأرض، والذي يغطي صخور ذلك الغلاف في كثير من الأحوال، سواء كان ناتجا عن تحللها مباشرة، أو منقولا إليها ليغطيها. والتربة بذلك تمثل الحلقة الوسطي بين الغلاف الصخري للأرض وكلا من غلافيها الهوائي والمائي، ولذلك فهي خليط من المعادن التي تفككت من صخور الأرض بفعل عوامل التعرية المختلفة، ومن المركبات العضوية وغير العضوية الناتجة عن التفاعل والصراع بين تلك النطق الثلاث من نطق الأرض، أو المتبقية عن الكائنات الحية التي تعمر قطاع التربة، وهي كثيرة من مثل البكتيريا، والطحالب، والفطريات، والنباتات بمختلف هيئاتها ومراتبها، فالتربة هي مصدر كل الغذاء والماء لحياة النباتات الأرضية لأنها وسط تتراكم فيه بقايا كل من العمليات الأرضية، والسلاسل الغذائية، والتي تتحلل بواسطة الكائنات الدقيقة التي تزخر بها التربة والتي تجهز بنشاطاتها كل العناصر اللازمة لنمو النباتات الأرضية.وتتكون التربة الأرضية أساسا من معادن الصلصال، والرمال، وأكاسيد الحديد، وكربونات كل من الكالسيوم والمغنسيوم. وبالإضافة إلى التركيب الكيميائي والمعدني لتربة الأرض فإن حجم حبيباتها ونسيجها الداخلي له دور مهم في تصنيفها إلى أنواع عديدة، وتقسم التربة حسب حجم حبيباتها إلى التربة الصلصالية، والطميية، والرملية، والحصوية، وأكثر أنواع التربة انتشارا هي خليط من تلك الأحجام.ويقسم قطاع التربة من سطح الأرض إلى الداخل إلى النطق الأربع التالية:(1) نطاق السطح الأرضي أو نطاق O وهو غني بالمواد العضوية من مثل أوراق الأشجار وفتات زهورها، وثمارها، وأخشابها، وتزداد فيها نسبة المواد الدبالية Humus أي العضوية المتحللة من أعلي إلى أسفل.(2) نطاق التربة العليا
|